كتبه/ مهندس محمود عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فإن للمعصية شؤماً على صاحبها، وهي تؤدي إلى نزول البلاء وحصول الهزيمة، ولذلك كان على مَن أراد النصر
على عدوه أن يتوب إلى الله -عز وجل- من كل ذنب وخطيئة، فإن الله -عز وجل- حكى عن الأنبياء وأممهم وأقوامهم
من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم، وذلك عند سؤاله النصر على الأعداء
﴿ فقال -تعالى-: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران ) ﴾
ولما علم القوم أن العدو إنما يُدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها سواء كانت المعصية
تقصيرا في حق أو تجاوزا لحد، وأن النصرةً منوطة بالطاعة, قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)
ثم علموا أن ربهم -تبارك وتعالى- إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرهم على
أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا، فـَوَفـَّوا
المقامَين حقهما، مقام المُقتضى وهو التوحيد والالتجاء إليه -سبحانه- ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب
والإسراف وقد بين الله -سبحانه وتعالى- أنه صدقهم وعده يوم أُحُد في نُصرتهم على عدوهم في أول المعركة وهو
الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد لاستمرت
نصرتهم، ولكن عن الطاعة وفارقوا
مركزهم على الجبل ففارقتهم النُصرة، فصرفهم عن عدوهم؛ عقوبة وابتلاءً وتعريفاً لهم بسوء عواقب المعصية،
وحسن عواقب الطاعة ثم أخبر -سبحانه- أنه عفا عنهم بعد ذلك كله، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين.
قال الله تعالى
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
(آل عمران:152). ﴾
قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا ومثلوا بهم ونالوا منهم؟ فقال: لولا
عفوه عنهم لاستأصلهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم.
ففي هذه الآية بين الله -سبحانه وتعالى- الحِكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ومنها: تعريفهم سوء
عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول -صلى
الله عليه وسلم- وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان
وترك المعصية ينشأ من أسباب عديدة منها:
السبب الأول: علم العبد بقبحها ورذالتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما
يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها، ولو لم يعلق عليها وعيدا بالعذ
السبب الثاني: الحياء من الله -سبحانه- فإن العبد متى علم بنظر الله إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع،
وكان حيياً استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعمة الله عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولابد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه
نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تُزيل
عنه نعمة حتى تُسلب النعم كلها،
﴿ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد: 11)،
وقال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الأنفال: ، ﴾
وأعظم النعم الإيمان قال بعض السلف: "أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل"
وقال آخر: "أذنبت ذنبا فحرمت فهم القرآن" وقالوا:إذا كنت في نعمة فراعها فإن المعاصي تزيل النعم
وقال بعضهم:رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَ إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلب وخير لنفسك عصيانها
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب -والعياذ بالله- فنعوذ بالله من زوال نعمته.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله،
وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما،
﴿ قال -تعالى- إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر:28). ﴾
السبب الخامس: محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع،
وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة
من ضعف المحبة وسلطانها،
وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده
وفي هذا قال عمر -رضي الله عنه- "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"، يعني أنه لو لم يخف الله لكان في
قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته، فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه
السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع من قدرها
وتخفض منزلتها وتحقرها وتسوي بينها وبين السفلة.
السبب السابع: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها من سواد الوجه وظلمة القلب
وضيقه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه وتعريه من
زينته والحيرة في أمره وتخلي وليه وناصره عنه وتولي عدوه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعدا له،
ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولابد، ومرضه الذي استحكم به فهو الموت
فإن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزه، ومنها أنه يصير أسيراً في يد عدوه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه
أعداؤه، ومنها أنه يضعف تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج، فلا رعيته تطيعه إذا أمرها ولا ينفذ في
غيرهم، ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة؛ فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأنس واستبداله وحشه،
وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة .
ومنها زوال الرضا واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبداله بالطرد
والبعد منه، ومنها وقوعه في بئر الحسرات فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرتها إن لم
يقض منها وطراً أو إلى غيرها إن قضى وطره منها.
ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يتََجِر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب
رأس ماله أصبح فقيراً معدماً, فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير، وإلا فقد فاته
ربح كثير بما أضاعه من رأس ماله. ومنها نقصان رزقه فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها زوال المهابة
والحلاوة التي لبسها بالطاعة، فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغض والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه ولا يعود إليه أبدا، ومنها طمع
عدوه فيه وظفره به فإنه إذا رآه منقادا مستجيباً لما يأمره اشتد طمعه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى
يصير وليه دون مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على القلب فإن العبد إذا أذنب نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإن
تاب منها صقل قلبه وإن أذنب ذنبا آخر نكتت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه فذلك هو الران،
﴿ قال -تعالى-: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون(المطففين: 14). ﴾
ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة
في الآخرة، ومنها خروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً
للصوص وقطاع الطريق، فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة إلى خَرِبَةٍ موحشة، هي مأوى
اللصوص وقطاع الطريق، ومنها: أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته.وبالجملة فأثار المعصية القبيحة أكثر من أن
يحيط بها العبد.
السبب الثامن: قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية،
قال نام القيلولة في ظل شجرة، ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وبسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله
حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما أنفس ما معه، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من
التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس فإن قوة الداعي إلى
المعاصي إنما ينشأ من هذه الفضلات فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتعداه إلى الحرام ومن أعظم
الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة بل إن لم يشغلها بما ينفعه شغلته بما يضره
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها، ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو
بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، ومن ظن أنه يقوى على
ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فإن للمعصية شؤماً على صاحبها، وهي تؤدي إلى نزول البلاء وحصول الهزيمة، ولذلك كان على مَن أراد النصر
على عدوه أن يتوب إلى الله -عز وجل- من كل ذنب وخطيئة، فإن الله -عز وجل- حكى عن الأنبياء وأممهم وأقوامهم
من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم، وذلك عند سؤاله النصر على الأعداء
﴿ فقال -تعالى-: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران ) ﴾
ولما علم القوم أن العدو إنما يُدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها سواء كانت المعصية
تقصيرا في حق أو تجاوزا لحد، وأن النصرةً منوطة بالطاعة, قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)
ثم علموا أن ربهم -تبارك وتعالى- إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرهم على
أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا، فـَوَفـَّوا
المقامَين حقهما، مقام المُقتضى وهو التوحيد والالتجاء إليه -سبحانه- ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب
والإسراف وقد بين الله -سبحانه وتعالى- أنه صدقهم وعده يوم أُحُد في نُصرتهم على عدوهم في أول المعركة وهو
الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد لاستمرت
نصرتهم، ولكن عن الطاعة وفارقوا
مركزهم على الجبل ففارقتهم النُصرة، فصرفهم عن عدوهم؛ عقوبة وابتلاءً وتعريفاً لهم بسوء عواقب المعصية،
وحسن عواقب الطاعة ثم أخبر -سبحانه- أنه عفا عنهم بعد ذلك كله، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين.
قال الله تعالى
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
(آل عمران:152). ﴾
قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا ومثلوا بهم ونالوا منهم؟ فقال: لولا
عفوه عنهم لاستأصلهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم.
ففي هذه الآية بين الله -سبحانه وتعالى- الحِكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ومنها: تعريفهم سوء
عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول -صلى
الله عليه وسلم- وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان
وترك المعصية ينشأ من أسباب عديدة منها:
السبب الأول: علم العبد بقبحها ورذالتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما
يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها، ولو لم يعلق عليها وعيدا بالعذ
السبب الثاني: الحياء من الله -سبحانه- فإن العبد متى علم بنظر الله إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع،
وكان حيياً استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعمة الله عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولابد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه
نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تُزيل
عنه نعمة حتى تُسلب النعم كلها،
﴿ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد: 11)،
وقال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الأنفال: ، ﴾
وأعظم النعم الإيمان قال بعض السلف: "أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل"
وقال آخر: "أذنبت ذنبا فحرمت فهم القرآن" وقالوا:إذا كنت في نعمة فراعها فإن المعاصي تزيل النعم
وقال بعضهم:رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَ إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلب وخير لنفسك عصيانها
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب -والعياذ بالله- فنعوذ بالله من زوال نعمته.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله،
وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما،
﴿ قال -تعالى- إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر:28). ﴾
السبب الخامس: محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع،
وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة
من ضعف المحبة وسلطانها،
وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده
وفي هذا قال عمر -رضي الله عنه- "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"، يعني أنه لو لم يخف الله لكان في
قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته، فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه
السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع من قدرها
وتخفض منزلتها وتحقرها وتسوي بينها وبين السفلة.
السبب السابع: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها من سواد الوجه وظلمة القلب
وضيقه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه وتعريه من
زينته والحيرة في أمره وتخلي وليه وناصره عنه وتولي عدوه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعدا له،
ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولابد، ومرضه الذي استحكم به فهو الموت
فإن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزه، ومنها أنه يصير أسيراً في يد عدوه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه
أعداؤه، ومنها أنه يضعف تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج، فلا رعيته تطيعه إذا أمرها ولا ينفذ في
غيرهم، ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة؛ فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأنس واستبداله وحشه،
وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة .
ومنها زوال الرضا واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبداله بالطرد
والبعد منه، ومنها وقوعه في بئر الحسرات فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرتها إن لم
يقض منها وطراً أو إلى غيرها إن قضى وطره منها.
ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يتََجِر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب
رأس ماله أصبح فقيراً معدماً, فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير، وإلا فقد فاته
ربح كثير بما أضاعه من رأس ماله. ومنها نقصان رزقه فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها زوال المهابة
والحلاوة التي لبسها بالطاعة، فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغض والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه ولا يعود إليه أبدا، ومنها طمع
عدوه فيه وظفره به فإنه إذا رآه منقادا مستجيباً لما يأمره اشتد طمعه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى
يصير وليه دون مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على القلب فإن العبد إذا أذنب نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإن
تاب منها صقل قلبه وإن أذنب ذنبا آخر نكتت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه فذلك هو الران،
﴿ قال -تعالى-: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون(المطففين: 14). ﴾
ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة
في الآخرة، ومنها خروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً
للصوص وقطاع الطريق، فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة إلى خَرِبَةٍ موحشة، هي مأوى
اللصوص وقطاع الطريق، ومنها: أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته.وبالجملة فأثار المعصية القبيحة أكثر من أن
يحيط بها العبد.
السبب الثامن: قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية،
قال نام القيلولة في ظل شجرة، ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وبسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله
حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما أنفس ما معه، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من
التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس فإن قوة الداعي إلى
المعاصي إنما ينشأ من هذه الفضلات فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتعداه إلى الحرام ومن أعظم
الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة بل إن لم يشغلها بما ينفعه شغلته بما يضره
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها، ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو
بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، ومن ظن أنه يقوى على
ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط.