الأمير المجاهد عبدالقادر الجزائري
لم ينس الغرب هزائمه في الحروب الصليبية التي خاضها في البلاد العربية ولذلك لم تفارق مخيلات أحفاد الصليبيين أحلام العودة إلى بلاد الشرق المسلم والاستيلاء على خيراته ويوماً بعد يوم تحولت تلك الأحلام إلى أهداف استعمارية ذات أطماع اقتصادية ومع حلول القرن التاسع عشر تحولت الأحلام إلى مخططات استهدفت فيما استهدفته الجزائر كبوابة عبوراستعماري لبلاد المغرب العربي ومنها إلى بقية البلاد العربية.
مخطط نابليون
كان نابليون بونابرت قد أدرك أهمية الجزائر الاستراتيجية والاقتصادية، وقد وضع أثناء فترة حكمه (1769-1821) مخططاً عسكرياً شاملاً لاحتلال الجزائر، وكان من المفروض أن يبدأ به باعتبار أن شواطئ الجزائر قريبة من فرنسا وكانت خطته تقضي بأن يتجه منها بعد احتلالها إلى مصر وفلسطين عن طريق البر بعد أن يجعل من موانئها قواعد عسكرية لبحريته ولكن تسارع الصراع بين فرنسا وبريطانيا جعله يرجئ احتلال الجزائر ويقوم باحتلال مصر على أن يقوم بالسير باتجاه الجزائر براً من مصر، وفعلاً كان على وشك الانطلاق بجيشه نحو الجزائر بعد أن احتل مصر إلا أنه في اللحظة الأخيرة قرر التوجه بالجيش إلى فلسطين واحتلالها؛ ومن ثم السير باتجاه الجزائر.
وهكذا كانت الجزائر هدفاً رئيساً لنابليون بونابرت ولكن الهزيمة لحقت بالفرنسيين في عكا ثم توالت هزائمهم في مصر وروسيا وجاءت الأحداث الداخلية الفرنسية لتطيح بنابليون وبقي مخططه لاستعمار الجزائر قائماً ينتظر من ينفذه.
مخرج الأزمات
عندما استلم شارل العاشر الحكم في فرنسا بعد نابليون كانت فرنسا غارقة في مستنقعات داخلية وخارجية تهدد وجودها ككل فمن جهة خسرت فرنسا معظم مستعمراتها بعد حربها مع بريطانيا ومن جهة أخرى كانت الحركات الداخلية المتمردة تزداد قوة وعدداً في الوقت الذي عجزت فيه الخزينة الفرنسية عن سداد الديون الخارجية وفي مقدمتها الديون الكبيرة للجزائر كأثمان سلع غذائية وحبوب اشترتها فرنسا مما جعل الباي يهدد بقطع تصدير الحبوب لفرنسا إن لم تسدد ما عليها من ديون.
ضمن هذه المآزق كان على شارل العاشر أن يتحرك لإيجاد مخرج ما، والمخرج تمثل في إعادة إحياء خطة نابليون لاحتلال الجزائر، فقد وجد شارل في احتلال الجزائر مخرجاً للديون الجزائرية الكبيرة على فرنسا، كما وجد في هذا تحقيق انتصار خارجي يلفت أنظار الداخل الفرنسي، ويواسي الشعب الفرنسي على خسارة معظم المستعمرات.
المشكلة التي كانت تواجه شارل العاشر هي أن فرنسا كانت قد رفعت شعارات: الحرية، والمساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها؛ ولهذا خطط لافتعال حادثة واهية مفادها: أن القنصل الفرنسي (ديفال) تطاول على الباي في مجلسه عندما كان يطالبه بأن تسدد فرنسا فواتير للجزائر فلوح الباي بمروحته باستياء وطلب من القنصل مغادرة مجلسه فاعتبر شارل هذا التصرف من الباي إهانة للأمة الفرنسية كلها ووجه الجيش الفرنسي والأسطول برمته لاحتلال الجزائر، وتم احتلالها فعلاً في عام 1830م.
مقاومة وجهاد
لم يكن نزول الجيش الفرنسي على السواحل الجزائرية سهلاً فقد جوبه بمقاومة شديدة من القبائل الجزائرية واستمرت تلك المقاومة معلنة رفض الجزائريين لهذا الاحتلال ولكنها لم تكن مقاومة منظمة؛ ولذلك لم تعط مفعولها المطلوب بشكل كامل لذلك تنادت القبائل إلى اجتماع عام عقد في وهران عام 1833م وانتخبت السيد (محي الدين الحسني) قائداً عاماً لثورة القبائل على الفرنسيين وقد قبل الحسني المهمة فترة إلا أنه وبسبب كبر سنه اقترح تسليم المهمة إلى ابنه عبدالقادر وكان عمره أربعة وعشرين عاماً، فوافقت القبائل، وتمت مبايعة عبدالقادر في مسجد مدينة معسكر.
وعبدالقادر من مواليد عام 1808م، حفظ القرآن الكريم منذ طفولته المبكرة ودرس أصول الشريعة والفقه، بالإضافة إلى شغفه بالفروسية والمبارزة وينتسب إلى أعرق القبائل الجزائرية وهي: قبيلة هاشم العربية وكل هذه الصفات أهلته ليكون موضع ثقة ومحبة الجزائريين فاجمعوا على قيادته لهم في مقاومتهم للاحتلال الفرنسي لبلادهم وكان أول ما فعله بعد تسلمه القيادة تكوين جيش قوي على أسس تنظيمية من جميع القبائل العربية اسماه (الجيش المحمدي) مما أعطاه المزيد من الهيبة السياسية بين القبائل وبعد أن أتم تكوين جيشه طلب من القبائل قطع جميع علاقاتها مع الفرنسيين وعدم مغادرة أراضيها تحت أي إغراء أو ضغط وبهذا الإجراء عزل الفرنسيين الغازين عن الشعب الجزائري من جهة، وخلق القناعة التامة في نفوس الجزائريين بأن مقاومة الغزاة الفرنسيين واجب ديني جهادي من يتخلى عنه يخرج عن إرادة الأمة المسلمة.
الفرنسيون بدورهم شعروا بالخطر الذي يتهدد مصير خطتهم الاستعمارية في الجزائر بعد ظهور الجيش المحمدي بقيادة عبدالقادر؛ فاستقدموا المزيد من القوات، والأسلحة المتطورة بمقاييس ذلك الوقت بعد أن قدروا بأن الجيش المحمدي لايملك إلا الأسلحة البدائية، وهو ما كان قد أدركه عبدالقادر قبلهم؛ إذ رأى أن النيات وحدها لا تكفي ولا بد من تحديث الجيش المحمدي، فبدا باستيراد الأسلحة الحديثة والذخائر من أية دولة تبيعها، وعندما ضيق الفرنسيون الحصار على منافذ استيراد الأسلحة قام عبدالقادر ببناء مصانع أسلحة مستعيناً بالفرنسيين الهاربين من الخدمة العسكرية، فأنشأ مصانع لإنتاج المدافع والبارود والذخائر.
وهكذا خلال فترة وجيزة كبرت هيبة عبدالقادر، وازداد عدد الجيش المحمدي مع استمرار انضمام رجال القبائل إليه، وكان على فرنسا أن تتحرك لتأليب الداخل الفرنسي ضده فبذلت إغراءات كثيرة وكبيرة لبعض رؤساء القبائل وجرتهم للتعاون معها، ومن جهة أخرى بدأت تبث عملاءها الذين حاولوا التشكيك بقدرة الجيش المحمدي على التصدي للجيش الفرنسي وإشاعة أن المصانع العسكرية التي أقامها ليست أكثر من تبذير لمال المسلمين في أمور لا نفع منها، وفي ذات الوقت ضغطت على سلطان المغرب ليوقف أي دعم لعبد القادر ولكن عبدالقادر واجه هذه المحاولات بالحكمة والحزم فكان يقمع أية حركة داخلية مناوئة، ويعاقب أية قبيلة تحاول التعاون السياسي أو الاقتصادي مع الغزاة الفرنسيين،وفرض على سلطان المغرب أن يلتزم الحياد على الأقل، وفي ذات الوقت كان يتهيأ لملاقاة قوات أكبر دولة استعمارية في ذلك الوقت.
معارك وانتصارات
جعل عبدالقادر من مدينة (معسكر) عاصمة له ومنها انطلق بجيش محمد لملاقاة الجيش الفرنسي فجرت عدة معارك انهزم فيها الفرنسيون هزائم منكرة ومن هذه المعارك معركة (خنق النطاح) التي أدت إلى تبديل القيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر بقيادة أخرى ولكن المعارك توالت وفي معظمها كان النصر حليف جيش محمد ولم يمض عام إلا وكانت منطقة وهران بالكامل تحت سيادة عبدالقادر مما أجبر فرنسا على التعامل معه كقائد كبير له ثقله وفي الواقع أحست فرنسا بأنها ستخرج مهزومة من الجزائر بسرعة إذا استمرت انتصارات عبدالقادر ولذلك سعت إلى عقد هدنة معه وقد قبل عبدالقادر بالهدنة لأنه كان يدرك بأن الفرنسيين مستمرون بإرسال المزيد من القوات والأسلحة لجيشهم في الجزائر ولابد من أن يواصل بدوره حشد المزيد من الجزائريين في جيش محمد وتطوير مصانع الأسلحة التي أنشأها وهكذا في 26 فبراير 1834 اجتمع كبار القادة والسياسيين الفرنسيين به لعقد الهدنة.
في ذلك الاجتماع وقف عبدالقادر موقف الفرنسيين بل كان الطرف الأقوى وبدلاً من عقد هدنة وقع الفرنسيون على معاهدة اعتبرها المؤرخون الفرنسيون أكبر معاهدة مهينة في تاريخ الجيش الفرنسي إذ نصت بنود تلك المعاهدة على مايلي:
- تعترف الحكومة الفرنسية بسلطة عبدالقادر وجيشه على كافة العمالة الوهرانية.
- يحق لعبدالقادر أن يستورد الأسلحة من أية جهة كانت وفي كل وقت ولايحق للجيش الفرنسي اعتراض الأسلحة التي يستوردها أو تفتيشها أو مصادرة شيء منها.
- يحق لعبدالقادر تعيين قناصل له في أي مكان داخل الجزائر وخارجها واستقبال قناصل معينيين من الدول التي يقيم معها علاقات.
- لا يحق للجيش الفرنسي إيواء المتمردين والخارجين عن سلطة عبدالقادر وعليه تسليمهم إليه.
وقد سميت هذه المعاهدة بمعاهدة (ديميشال)
وفي الواقع كان عبدالقادر يدرك بأن الفرنسيين لا أمان لهم ولا قيمة لمعاهداتهم لذلك استمر ببناء قوة جيشه وتسليحه وفي ذات الوقت استمر بفرض سيطرته على وهران وقد كتب بنفسه عن تلك المعاهدة قائلاً: بأنه غير مقتنع بها لأنه يريد تحرير كامل الجزائر وإنه يثق بأن الفرنسيين لن يحترموا المعاهدة وسيقومون بنقضها ولكن إلى ذلك الحين ستكون لديه فرصة كافية لتقوية الجيش وزيادة تسليحه وقد تحقق ما رآه سريعاً ففي عام 1935 ثارت قبيلتان على سلطة عبدالقادر وانضمتا إلى فرنسا فبرز لهما عبدالقادر وقاتلهم ثم طالب الفرنسيين تسليمه زعماء القبيلتين تنفيذاً لمعاهدة ديميشال فرفض الفرنسيون ذلك عندها انبرى عبدالقادر وواصل القتال ضد الفرنسيين باعتبارهم قد نقضوا معاهدة ديميشال وقد ألحق بالجيش الفرنسي هزائم كبيرة في معارك مثل معركة المقطع في الشهر السادس من عام 1835 ووجدت فرنسا نفسها مرة أخرى أمام مأزق مواجهة قائد عسكري عبقري يلحق بها الهزائم تلو الهزائم.
منهجه العسكري
بالطبع لايمكن أن نستعرض كافة المعارك التي قاد فيها عبدالقادر جيشه وحقق من خلالها الانتصارات على قوات الفرنسيين فهي انتصارات كثيرة ومن خلالها تتبدى عبقريته العسكرية والقيادية ومنهجه المبتكر في خوض المعارك ورسم وتنفيذ الخطط الحربية ولعل أهم ملامح منهجه الحربي كان كما يلي:
بناء الجيش العقائدي
فقد حرص على أن يكون جيشه متسلحاً بالعقيدة الإسلامية، ومن الواضح أن تسمية جيشه باسم (الجيش المحمدي) يعكس هذا الحرص العقائدي، وكان لا يترك فرصة إلا ويلتقي فيها بأفراد الجيش محدثاً إياهم بما لديه من علم الفقه والعقيدة؛ وزارعاً في نفوسهم حب الشهادة في سبيل الله تعالى.
المرونة في الحركة
وذلك من خلال ضرب العدو دون مواجهته في معركة فاصلة؛ مما كان يحطم معنويات العدو، ويضعه في حالة ارتباك مستمر.
استغلال البيئة
فقد كان يجر القوات الفرنسية إلى عمق المناطق الصحراوية حيث الحرارة الشديدة، وصعوبة الحركة وسط الرمال والكثبان، وهي بيئة قاسية على الجنود الفرنسيين، في حين أن الجزائريين متأقلمون معها.
العاصمة المتنقلة
فحيثما حل مع جيشه كانت عاصمته وبذلك فوت على الفرنسيين إمكانية القضاء على عاصمته.
بهذه الصفة القيادية والمنهج العسكري المبتكر استطاع عبدالقادر أن يلحق الهزائم تلو الهزائم بالجيش الفرنسي وجعل الحكومة الفرنسية في ارتباك دائم وعندما حلت بالفرنسيين الهزيمة الماحقة في معركة (المقطع) اهتزت الحكومة الفرنسية وعقدت اجتماعاً طارئاً ضم كبار القادة العسكريين وتقرر إنهاء عبدالقادر ومقاومة جيشه بأي شكل كان، ومهما كانت التكاليف؛ إنقاذاً لما بقي من هيبة فرنسا أمام العالم وأمام الشعب الفرنسي وفي سبيل تنفيذ ذلك جردت فرنسا جيشاً كبيراً رفدته بأعداد كبيرة من جنودها الذين استقدمتهم من مستعمراتها وعلى مدة عدة أشهر كانت السفن الفرنسية تنقل الجنود والمعدات إلى الجزائر بدون توقف حتى بلغ عدد الجيش الفرنسي في الجزائر أضعاف ما حشدته فرنسا لأكبر معاركها مع إنكلترا (الحرب الكبرى).
بعد أن زجت فرنسا بمعظم جيشها في الجزائر شكلت مجلساً حربياً بقيادة المارشال (بوجو) ومعه عشرة ضباط برتبة جنرال وخمسة برتبة كولونيل وقد كتب المارشال بوجو في مذكراته قائلاً: "لقد شكلنا مجلساً حربياً لا يتشكل إلا في الحروب الكبرى التي تخوضها فرنسا ومنذ البداية أكدنا قناعتنا نحن أعضاء المجلس الحربي بأن العدو الذي سنقاتله قد يكون أكبر من كل الأعداء الذين عرفناهم فعبدالقادر كما تأكد لنا داهية لا يستهان به ويجب أن نحترم قدراته غير العادية ونتحسب لها كما أن الذين قاتلوا جيشه أخبرونا أنهم في الواقع قاتلوا عدواً وهمياً فهذا الجيش يظهر من الأماكن التي لا يتوقع أحد أن يظهر جيش منها وعندما تستوعبه وتتجه إليه يختفي في الصحراء. إن الحرب ضد عبدالقادر وجيشه هي الحرب الكبرى التي نخوضها ويجب أن نعتبرها الحرب الكبرى".
وبدأت فرنسا حربها الكبرى ضد عبدالقادر والجيش المحمدي، واتبع المارشال بوغو سياسة الأرض المحروقة من خلال حرق المحاصيل والمساحات المزروعة وتدمير القرى وتخريب الواحات والقتل الجماعي للسكان، وهذا أدى إلى سقوط قلاع الأمير عبدالقادر تباعاً وفي ذات الوقت قام الجيش بإعدام كل زعماء القبائل التي تتعاون مع الأمير؛ واستطاع الجيش الفرنسي بهذه السياسة احتلال مدينة الزمالة التي تضم المصانع العسكرية، والخزينة المالية للأمير الذي لم يجد بعد طول مقاومة إلا الالتجاء لسلطان المغرب.
بداية البداية
أمضى عبدالقادر فترة في حماية السلطان المغربي، وخلال هذه الفترة كان قد بدأ بإعادة بناء جيشه وترميمه؛ وقد طالبت الحكومة الفرنسية سلطان المغرب تسليمها عبدالقادر الجزائري لكن السلطان أبى بشدة؛ فوجهت فرنسا بحريتها وقصفت مدن (وجدة) و (طنجة) و (والصويرة) وغيرها من المدن المغربية الساحلية؛ وكان القصف وحشياً وكثيفاً ألحق الخراب والموت بهذه المدن، عندها غادر الأمير عبدالقادر إلى الجزائر مقرراً متابعة النضال منها، في حين أجبرت فرنسا سلطان المغرب على عقد معاهدة معها يمتنع من خلالها عن مساعدة الأمير أو إيوائه.
وتابع عبدالقادر القتال مع ما بقي من جيشه وفي الوقت الذي كان فيه عدد الجيش يتناقص بسبب استشهاد أعداد كبيرة من أفراده كانت فرنسا تواصل إرسال المزيد من الجنود والأسلحة للمارشل بوغو ومع ذلك بقي الجيش المحمدي يلحق الهزائم المتكررة بالجيش الفرنسي فقد وسع الأمير من نطاق عملياته الحربية، وامتد بها إلى عمق المناطق الجزائرية إلا أن ما كان يحد من عملياته هو إشفاقة على المواطنين الجزائريين في المناطق التي كان يقوم فيها بالعمليات إذ كان الجيش الفرنسي بعد كل مواجهة مع جيش الأمير يقوم بحرق الأرض التي تمت فيها المواجهة ويدمر القرى ويعدم العشرات من المدنيين فكان لابد أن يضع الأمير حداً لما يرتكبه الفرنسيون من مجازر وتدمير وقتل فقبل الاستسلام للجنرال (لامود سيير) في شهر مارس عام 1847 بعد خمسة عشر عاماً من النضال المتواصل والمشرف.
عن قبوله بالاستسلام يكتب الأمير قائلاً: "إذا كان توقفي عن القتال سيريح فرنسا فإن راحتهم لن تطول؛ لأن البداية لم تحن بعد، سيأتي غيري من بعدي ويبدأ من جديد" وكان ما توقعه الأمير؛ فإن نضاله كان بداية البداية في النضال الجزائري الذي تواصل حتى تحرير الجزائر واستقلالها.
واستمر نضاله
اشترط الأمير قبل استسلامه أن يسمح له الفرنسيون بالرحيل مع أسرته ورجاله إلى أي بلد إسلامي يختاره ولكن الفرنسين بعد استسلامه أدركوا بأنه في أي بلد مسلم يذهب إليه سيعيد تشكيل جيشه ويعود لمحاربتهم لهذا نقضوا اتفاق الاستسلام وساقوا الأمير إلى فرنسا حيث وضع في إقامة إجبارية عدة سنوات، ثم تم الإفراج عنه شريطة ألا يعود للجزائر ولتضمن فرنسا عدم عودته أجرت له راتباً كبيراً يتقاضاه طالما هو خارج الجزائر فسافر إلى الإسكندرية وأقام فيها لفترة قبل أن يغادرها إلى اسطنبول حيث أحاطه السلطان العثماني عبدالمجيد بالرعاية والتكريم ومن اسطنبول غادر إلى مدينة بروسة وأقام فيها إلى أن وقع فيها زلزال فغادرها إلى دمشق حيث كان السلطان العثماني قد منحه قصراً وأجرى له راتباً مجزياً وقد عاش الأمير في دمشق بقية عمره وتوفي فيها؛ وبعد استقلال الجزائر تم نقل رفاته إليها.
إنها سيرة مشرفة لمناضل عربي مسلم شهد له أعداؤه بالبطولة والعبقرية العسكرية فقال عنه المارشال الفرنسي بوغو مثلاً: "لا أملك إلا أن انحني احتراماً لقدرات رجل وضعني القدر في مواجهته كعدو ولكنني كعسكري تعلمت منه الكثير وأول ما تعلمته هو أن الحكمة القيادية عندما تمتزج بحب الموت لابد أن تؤدي إلى النصر في المعارك".